(geoplotics) العلوم والنظريات في تفسير العلاقات الدولية والجيوسياسية

المقدمة:
من مأثر البحث التاريخي او البحث في التاريخ ، قدرته على بلورة و مواجهة التفسيرات السهلة التي وضعها التاريخ ومراحله وبناها خلال عدة قرون.
من هيرودوت (Herodotus) أب التاريخ (مؤرخ وعالم في الجغرافيا يوناني في القرن الخامس ق.م) ، الذي اراد تفسير الحروب المدية بصدام الثقافات بين اليونان والفرس ، الى توسيديد المؤرخ اليوناني (Thucydides) الذي دحض اقواله بوصف صراع اليونانيين بين اسبارطة واثينا خلال الحروب البلوبونيزية ما بين عامي 460 ق.م و445 ق.م بعيدا عن صراع الثقافات.
كل التفسيرات الكلية للتاريخ، كل النماذج التفسيرية جرى دحضها مع تقدم المعرفة في الوقائع التاريخية. وكان المؤرخون المتخصصون في دراسة التاريخ على حق عندما سخروا من المؤرخين الذين يعممون السببية الواحدة الكاملة ويدافعون عنها وعن نتيجتها التي لا يمكن تجنبها.

الايديولوجيا والتفسير
من فيغو( VIGO ) فيلسوف ومؤرخ ايطالي من القرن الثامن عشر وعصوره الثلاثة ( العصر الألهي، عصر الأبطال وعصر الأنسان) ، الى التفسير النمطي والدوري لمصير الحضارات، والعصور الثلاثة لأغسطس كونت ( Auguste Comte ) فيلسوف وكاتب فرنسي من القرن الثامن عشر ( العصر الديني والميتافيزيقي والأنساني)، الى تتابع المراحل لكارل ماركس ( Karl Marx ) ومراحل تطور المجتمع (المجتمع البدائي، العبودية، الأقطاع، الراسمالية والأشتراكية )، واخيرا نهاية التاريخ مع فوكوياما(Fukuyama F.) الياباني وصدام الحضارات لصاموئيل هانتغتون( S. Huntington) ، كل هذه النظريات لا تفسر بشكل كامل مجرى التاريخ واسباب الصراع و الصدام، وهي تغرق بوضوح في تفسيرات اقتصادية وايديولوجية وحضارية صافية للعلاقات بين الامم.
كذلك علينا الا ننساق وراء اعطاء الأيديولوجيا لوحدها أداة وحيدة صالحة والمرجع الأوحد في تفسير التاريخ. ذهب بعض المفكرون الى اعتبار المنافسة الأقتصادية وكل الصراعات ليست الا نتيجة المنافسات السياسية ، فيما اعتمد البعض الأخر على الجغرافيا في تفسير العلاقات الأقتصادية.

من وحي الافكار التي سادت خلال الحرب الباردة بين العالم الراسمالي والعالم الشيوعي والتي تفسر التاريخ والعلاقات الدولية بصدام الايديولوجيا، وتعريف الايديولوجيا الماركسية التاريخ العالمي وتفسيره بالكفاح والصراع بين العصر التقدمي (الشتراكي) والعصر الرجعي ( الراسمالي)، لا نستطيع تبرير اتفاق ستالين وهتلر في العام 1939، وكيف ان الكاردينال ريشوليو ( Richelieu ) تحالف مع السلطان التركي ولماذا ان السياسة الخلرجية للأتحاد السوفياتي هي نفسها السياسة الروسية قبل العام 1922؟
خلال الحرب الباردة، تحالف عدد كبير من دول العالم الثالث مع الاتحاد السوفياتي لاسباب ظاهرها ايديولوجي. اليس صراع كوبا مع الولايات المتحدة بسسب كونها جزيرة قريبة منها وليس لسبب ايديولوجي؟
بعد الانعزال الطوعي الأميريكي في القرن التاسع عشر، خرجت الأخيرة الى خوض غمار السياسة العالمية. هناك تقليدان سياسيان خدما بشكل متناقض السياسية الدولية للولايات المتحدة : المثالية الولسونية نسبة الى الرئيس ويلسون، والمرتكزة على الأرادة في تصدير القيم الأميريكية الى العالم كما اوضحها الرئيس ولسون في خطابه في العام 1919 في عصبة الأمم والبراغماتية الروزفلتية نسبة الى الرئيس روزفلت، تلك الطامحة والمفتشة عن المصالح الحيوية والتوازن العالمي مع القوى الأخرى.

ان السياسة الخارجية للولايات المتحدة هي سياسة روزفلتية مغلفة بالمثالية الولسونية والقيم والأخلاق.
نستخلص الايديولوجيا ليست المحرك الوحيد او الأول للتاريخ والشعوب، ولكنها وسيلة فعالة في تدجين الشعوب وتحريضها مع او ضد الاخصام والمنافسين. ويمكن ان نتلمس في الوقائع ان الدول التي لديها معطيات داخلية ثابتة تحافظ اكثر وبصورة مستدامة على سياسة خارجية لا تتبدل، على الأقل اقليمية، بالرغم من التغيرات الايديولوجية التي عرفتها ( مثلا اثيوبيا بعد سقوط الأتحاد السوفياتي).
بين عامي 1945 و 1990، ملكت الأيديولوجيا سيدة دون منازع على تفسير ودراسة العلاقات الدولية. ولكن بعد العام 1990، بدأنا التحدث عن نهايتها وبدأت كلمة الجيوسياسية (Geopolitics ) تحتل المركز الأول في الدراسة والتحليل. وعبر الجيوسياسية، تم الأعتماد على دراسة وعلم وطريقة لتحليل تفسير العلاقات الدولية والعلاقات السياسية بين المجتمعات البشرية.و في تعريف سريع ان العلم الجيوسياسي هو دراسة علاقة الأنسان بالجغرافيا (أرض وبشر) في تداعياتها على العلاقات السياسية بين المجتمعات البشرية.

الجيوسياسية واساس القياس
لا يمكن الأكتفاء بالقول ان العلم الجيوسياسي يهدف الى دراسة علاقة الأنسان بالجغرافيا ( أرض وبشر) ونتائجها وتداعياتها على العلاقات السياسية بين المجتمعات البشرية دون تحديد وحدة قياس او معيار مقارنة. من الدولة-المدينة الى الدولة-الأمير الى الدولة-الوطن او الدولة-الأمة، برهن هذا الأطار السياسي انه منظم ولديه القدرة والقوة على السيطرة والسلطة ويستطيع ان بجمع الأنسان بالأرض وان يحافظ على الخطوط السياسية ضمن الجغرافيا (أرض وشعب).
ان الدولة هو البناء السياسي الشرعي لاظهار القوة وممارستها وتملك الأحتكار للعنف الشرععي في خدمة الأمان للمجتمعات والسيطرة على المجال الجغرافي وتأمين المصالح الحيوية.
هذا لا يعني ان الدراسة الجيوسياسية لا تتجاوز الدولة وتحدها . هناك عدة لاعبين أخرين مهمين ايضا غير الدولة وداخلها من مجتمعات وجماعات عابرة للدولة ويدخلون ايضا في التحليل والأستنتاج والدراسة.ولكن كل لاعب وكل قدرة وكل قوى تدور حول الدولة ومن ثم تعود اليها.

ان الخريطة الجيوسياسية تعتمد على الخرائط الجغرافية والديمغرافية للدول. كل العوامل الأخرى التي تخضع للتحليل والدراسة، أكانت القبيلة او الأتنية، الصحراء والبحار، الديانة و اللغة، الحدود والمستنقع كلها تخضع للأطار الزمني والجغرافي اي المكاني ويتم تحليلها في اطار الخارطة الدولية. تدرس التضاريس والأراضي التي تتحرك وفقا لمحاولة السيطرة وبسط الهيمنة على الموارد الطبيعية وعلى الشعوب التي تستوطن هذه المناطق.

ان العوامل الداخلية والقوى العميقة التي تواجه وتجابه الدولة من الداخل وكذلك العوامل الخارجية التي تحاول زعزعة أسس الدولة وضمها أو احتلالها، تدخل أيضا في سلسلة الدراسات التي تعنى بها الجيوسياسية.
ان السياسات الخارجية لعدد من الدول تبدو ثابتة بالرغم من التحولات الايديولوجية والانقلابات التحالفية او تغيير التحالف أو الحلف، لان الحكومات تحلل وتتصرف في محيط جغرافي غير قابل للاختراق من المتغير الكبير الذي هو الزمن. ان الدولة التي تملك ساحلا او الدول الجزر تمخر عباب الازمنة والعصور، ثابتة في توجهاتها السياسية و الأمنية والدفاعية والاقتصادية بالرغم من التطور والتقدم البشري الذي يبدل من علاقة الانسان بالجغرافيا (السيارات والطائرات وسكك الحديد الخ…..)

كل دولة تبني سياستها الخارجية والداخلية على ثلاثة عوامل ثابتة وأساسية لا تتبدل ولا تتغيروهي :
الجغرافيا والخريطة الجغرافية وتأثير المناخ في المجتمع.
الأنتماء والهوية وثباتها في المجتمع
الموارد الأولية وتأمين المصالح الحيوية والقدرة والقوة

تنطلق العلوم الجيوسياسيبة من الأعمال والدراسات التي وضعت في مجال العلاقات الدولية، التاريخ، العلوم الاجتماعية والسياسية والجغرافيا والحدود. تم بناء الفكر الجيوسياسي على دعائم المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية والدور المحوري الذي تلعبه الدولة. ومن الأعمال الاساسية تلك التي تعود الى هانز مورغانتو ) Hans Morgenthau ) وهو سياسي انكليزي من القرن العشرين وريمون ارون Raymond Aron)) مفكر فرنسي يعرف بعبارة “مجد الأمة” ودلالاتها التوسعية وأعمال المدرسة الواقعية الجديدة (Neorealism ) ورائدها كينيت والتز ( Kenneth Waltz) في الولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين.

ترتكز الواقعية السياسية عند مورغانتو ( Morgenthau ) على خمسة مبادئ:
أولا: تتحكم بالسياسة القوانين الموضوعية التي تنبثق من النقص وعدم مثالية العالم ومن طبيعة الانسان.
ثانيا: المصلحة هي المعيار الرئيسي في العلاقات الدولية.
ثالثا: على مدارس العلاقات الدولية الابتعاد عن الدوافع الايديولوجية وعواطف اللاعبين لانها غير ثابتة.
رابعا: تعتبر السياسة الخارجية جيدة ومناسبة عندما تقلص المخاطر وتعظم الأرباح.
خامسا: التوتر وشد الحبال بين المصالح والقوانبن الأخلاقية حتمي ولا يمكن تفاديه.

اما بالنسبة لكينيت والتز(Kenneth Waltz )، فان الدول تسعى الى ألأمن و الأمان أكثر من سعيها للتفتيش عن التوازن في العلاقات الدولية وهذا ينطبق على السياسة ألأميريكية خاصة تصريح الرئيس المنتخب دونالد ترامب مؤخرا عن رغبته في السيطرة على بنما وشراء الغرونلاند ( Greenland) من الدانمارك وضم كندا الى الكونفدرالية الأميريكية، لان ذلك ضروري لأمن وأمان الولايات المتحدة الأميريكية وهذه اعتبارات جيوسياسية واضحة دون عواطف ومجاملات.

في وجه العموم، يستند مفكرو المدرسة الواقعية على اعتبار الدولة تفتش حصريا على المصلحة ولها الأولوية في سياساتها، تماما كالفكر المكيافيللي والفكر المنفعي ( utilitarianism ) في القرن الثامن عشر ورائده دايفيد هيوم (David Hume) وهو فيلسوف اسكتلندي وكتابه ” عن التوازن” في العام 1741 لناحية العمل على تعظيم الرخاء والرفاهية قبل أي اعتبار.

ابتكار الاسم : أصول كلمة جيوسياسية

يعتبر القانوني السويدي رودولف كجلن (Rudolf Kjellen ) 1846-1922، استاذ العلوم السياسية والتاريخ مخترع كلمة جيوسياسية في العام 1900.
عرف الجيوسياسية في كتابه “الدولة شكل من أشكال الحياة” ( Staten som livfsform ) كالتالي : علم دراسة الدولة كجسم جغرافي، كما يظهر في المجال الجغرافي. وظهر واضحا أن كجلن ( Kjellen ) يعتبر ان الجبوسياسية هو علم تابع للعلوم السياسية وجزء منها، وتختلف عن الجغرافيا السياسية.

الحتمية الجيوسياسيثة وفريديريك راتزل Frederic Ratzel) ).

يحتل راتزل مكانا مركزيا في العلم الجيوسياسي من عدة نواحي، اذ أنه أول عالم للجغرافيا يقترح المفاهيم الأساسية للجيوسياسية الألمانية.
تعتبر أفكاره الموجه الأساسي للسياسة الخارجية الألمانية في بعدها الأوروبي والعالميWeltpolitik)).
حلل راتزل بصورة نظرية وعملية العلاقة بين السياسة والاقليم الجغرافي. ونتج عن ذلك حتمية تدفع نحو سياسات التمدد والتوسع والتفتيش عن القوة والقدرة، مما أعطى وسيلة وحجة للحاكم الألماني في ضم جميع الشعوب الألمانية تحت المظلة الاقتصادية والسياسية للمركز.

خلال سفره الى الولايات المتحدة في العام 1873 لفت نظره المساحات الشاسعة والمتمادية بلا أفق، وأصبح شغوفا بالمشاريع السياسية الكبرى وأسف عن عدم دراية الأوروبيين وتصورهم لمجال جغرافي أوسع من القارة العجوزوأخذ يشجع السياسيين على زيارة اسيا واميركا.
ان هذه الرؤية الأوروبية التوسعية، فهمت في ألمانيا على أنها انتصارلمفهوم القيادة على كامل اوروبا. ودفع ذلك السياسة الألمانية الى الذهاب الى أفريقيا واستعمار البلدان لزيادة القوة والغنى، كما كانت تفعل انكلترا مدفوعة بعامل الجزيرة المحاطة بالمياه وأصبحت قوة عظمى بعد سيطرتها على البحار والمحيطات بالهيمنة على طرق المواصلات البحرية والتجارة العالمية وعلى مفاتيحها في جبل طارق-قناة السويس-راس الرجاء الصالح-عدن-سنغافورة-هونغ كونغ الخ……وتبعتها فرنسا بأن أصبحت قوة عظمى في العالم.
أيقن راتزل أن فرنسا وانكلترا قد سبقتا ألمانيا في التمدد والسيطرة ، فاقترح أن تتحالف ألمانيا مع أسيا ومع الشرق ألأدنى، وفي القرن العشرين حقق الألمان حلم راتزل وتحالفوا مع اليابان الأمبراطورية الشاسعة والتوسعية ومع الامبراطورية العثمانية ومجالاتها البحرية الحيوية في المتوسط والبحر الأسود والمضائق وطرق المواصلات نحو الهادئ والأطلسي.
وفي العلم الجيوسياسي الراتزلي، أصبحت الحدود عنصرا حيا والتموضع او الموقع الجغرافي يجسد الديناميكية والقوة للتغيرات المساحية. وأوضح أن الدولة تتوسع بصورة طبيعية عند وجود حضارة أدنى من حضارتها على حدودها لأنها تتمدد بهضم وقضم الدول الضعيفة ويتماشى هذا التمدد تلقائيا مع تطور الثقافة في الدولة القوية.

الجيوسياسية اداة لتحرير المانبا : كارل هوشوفر 1869-1946 (Karl Haushofer)
ضابط وعسكري بالروح والفكر، شعر هوشوفر (Haushofer ) بالمرارة بعد تسريحه من الجيش بعد هزيمة ألمانيا والذل الذي لحق بها بعد توقيع معاهدة فرساي ( Versailles ) وقرر دراسة الجيوسياسية التي عرفها أنها الضمير الجغرافي للدولة ووسيلة لتحرير ألمانيا من هزيمتها.
بعد سفره الى الهند في العام 1908 ومكوثه هناك في مهمة دبلوماسية، أدرك أن المجتمع الألماني لا يعي الخطر الكبير من الواقع الجغرافي لبلدهم. من هنا طور فكره وارتكز في ذلك على العلاقة العضوية بين الأرض والشعب الذي يعيش عليها. لذلك اعتمد على نظرية الوحدة الفكرية ( pan-ideologies) التي تمهد وتتطلب وحدة جغرافية، عرقية وحضارية لأي مجتمع انساني وقسم العالم الى أربع مناطق عامودية الأتجاء وفقا لمحور شمال – جنوب:
أولا- المنطقة التي تشمل اوروبا نزولا الى افريقيا وتديرها وتسيطر عليها ألمانيا.
ثانيا- هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة على القارة الأميريكية من كندا حتى التشيلي والارجنتين.
ثالثا- تسيطر روسيا على المجال الروسي العظيم وعلى اسيا الوسطى والقارة الهندية.
رابعا- اليابان سيد المنطقة الاسيوية اي اليابان والجزر وكوريا واندونيسيا واستراليا.

هذه المناطق تساعد وفقا لهوشوفر(Haushofer ) على تلمس الصدامات الكبرى الجيوسياسية للكوكب. من هنا يمكن فهم تموضع دول المحور ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ويفهم ايضا تعارض فكر هوشوفر مع العنصرية النازية التوسعية.

القوة البحرية والجيوسياسية الانكليزية.
يتمحور التقليد الجيوسياسي الالماني حول اعتبار اليابسة والاراضي من ادوات السيطرة، يواجهه الحقيقة الاميريكية والبريطانية في اعتبار البحار والسيطرة على طرق المواصلات عاملا حاسما في التوسع والهيمنة بالرغم من الخوف والخشية من اتحاد روسيا والمانيا.
أنتج الاميرال ماهان ( Mahan) 1840-1914 مفهوم القوة البحرية ( Sea power ) وشرح كيفية تطويق واحتواء المانيا وعزلها وعن ضرورة التحالف مع القوة البحرية الانكليزية وتطوير دفاع قوي بين الولايات المتحدة واوروبا لوقف الطموح الالماني باتجاه اسيا، وهذا ما ظهر جليا بعد سقوط جدار برلين وتوجه حلف شمال الاطلسي الى تامين هذا الدور.

مركز او قلب الارض ( the Heartland ).

ان هالفورد ج. ماكندر ( Halford J. Mackinder) 1861-1947 هواميرال بريطاني، علم ودرس الجغرافيا في جامعة اوكسفورد. طور فكر جيوسياسي يجاوب على القلق الانكليزي من مواجهة روسيا والمانيا في عمقهما القاري.
أشار ماكندر ( Mackinder ) الى أن قلب العالم او الارض ( Heartland ) هو منطقة جغرافية تتركز فيها كل الديناميكيات الجيوسياسية في العالم. هذا القلب هو روسيا والمانيا أو أوراسيا ( Eurasia )، حيث لا يمكن للقوة البحرية الوصول اليه. حول هذا الموقع المحمي من جدار طبيعي (الهيمالايا، سيبيريا، صحراء غوبي ( Gobi)، التيبيت) ويسميه ماكندر(Mackinder ) الهلال الداخلي (Inner Crescent ( و تنتشر بعده الأراضي والمساحات الساحلية (Coastlands ) اي أوروبا الغربية، الشرق الاوسط، أسيا الجنوبية والشرقية. أبعد من هذه المناطق تشكل الجزر البريطانية واليابان مع الولايات المتحدة طوقا مع المناطق الساحلية لقلب العالم ( Heartland).
ويستطرد ماكندر ( Mackinder ) قائلا أن الصدام العالمي هو بين قلب العالم والهلال المحيط به. ويضيف أن من يسيطر على أوروبا الوسطى يسيطر على الأرض الوسطى، ومن يسيطر على الأرض الوسطى يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على هذه الأخيرة يسيطر على العالم.
يتبين ان فكر ماكندر (Mackinder ) يتخوف من هاجس التحالف والوحدة الألمانية –الروسية، لان هذا البعد القاري سيسيطر على الجزيرة العالمية ( World Island ).
لكن الخشية عند ماكندر (Mackinder ) اصطدمت بالواقع، أي استحالة تحاتف المانيا وروسيا لتكوين قلب العالم (the Heartland ) اخذين بعين الاعتبار حرب نابوليون وطموحاته بالمواد الأولية الروسية وهجوم هتلر المبرمج ضدها، واخيرا استيلاء ستالين على المانيا الشرقية بعد الاطاحة بالنازية التي تشكل خطرا على السلافية .

الضفة او الحافة (the Rimland ) محور أساسي في الصدام بين البر والبحر.
يعتبر نيكولا جون سبايكمن ( Nicolas John Spykman ) أب لنظرية ألأحتواء (Containment ) الأميريكية التي طبقتها الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة وبعد انتهائها أيضا.
سبايكمن (Spykman ) صحافي اهتم بالشرق الأوسط واسيا وطبيعة العلاقات السياسية السائدة فيها. درس العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا وأدار معهد الدراسات الدولية في جامعة يال (Yale ).
ان العلم الجيوسياسي عند سبايكمن (Spykman) يرتكز على التصرفات الخارجية للدول. ينتقد فكر هوشوفر وماكندر ويضع في وجه نظرية القلب ( the Heartland ) نظرية جيوسياسية اخرى مركزها الضفة او الحافة (The Rimland ) التي تحيط بالقلب وحيث تدور المواجهة بين البر والبحر. يشدد سبايكمن على أن من يسيطر على الضفاف يسيطر على أوراسيا ومن يتحكم بها يمتلك مصير العالم بين يديه.
لعب الموقع الجغرافي لفرنسا دور الضفة في نهاية القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الأولى بين طموحات المانيا التوسعية وبين الهيمنة لبحرية الانكليزية ومحاولة التوسع والسيطرة.
بعد الحرب العالمية الثانية وفي النظام الثنائي العالمي، لعبت أوروبا الغربية دور الضفة (Rimland) بين حلف شمال الأطلسي (Nato ) من جهة وحلف وارسوWarsaw)) من جهة أخرى. وكان سبايكمن على حق عندما سقطت نظرية القلب اثناء الحرب العالمية الأولى عندما تحالفت انكلترا مع روسيا وأيضا عند تكوين الجبهة الروسية – الأميريكية المشتركة خلال الحرب العالمية الثانية.

صراع الحضارات، المثالية والواقعية السياسية.
دار في الولايات المتحدة الأميريكية في اواخر القرن العشرين نقاش حول السياسة الخارجية التي تمحورت حول ثلاثة توجهات أساسية: الواقعية السياسية التي تنخرط في الدراسة الجيوسياسية التقليدية فتوجه موازين القوى بين الدول وعلى أتباع مركزية الدولة في اي صراع، والمثالية الولسونية التي من ثمارها الحلم والقيم وأتباع هانتغنتون (S. Huntington ( الذين يلخصون العلاقات الدولية بصراع الحضارات.

الدراسة الجيوسياسية لبريزنسكي (Brzezinski ).
قام زبينيغو بريزنسكي ( Zbigniew Brzezinski ) ، مستشار سابق للرئيس جيمي كارتر (J.Carter) بالدفاع عن سياسة الاحتواء ( Containment ) للولايات المتحدة تجاه روسيا، وأوضح أنها ولكي تظل قائدة العالم عليها أن تتجنب ما يلي :
أولا- سيطرة روسيا على المنطقة الوسطى أي اعادة احياء الأمبراطورية الروسية.
ثانيا- ايقاف تأجيج الصراع في أسيا الوسطى في أفغانستان والدول المحيطة ببحر قزوين وباكستان.
ثالثا- تحالف الدول المناهضة للولايات المتحدة وعلى راسها السودان، العراق، ليبيا وكوبا .

اما في اوراسيا ( Eurasia )، على الولايات المتحدة ان تعمل وتسعى الى:
أولا- تحرر أوكرانيا من القبضة الروسية مما يؤدي الى تقسيم النفوذ الروسي من ناحية الشمال الى الجنوب.
ثانيا- السيطرة على بحر قزوين
وفي العام 1999 سنحت لبريزنسكي تبرير التدخل الغربي للسيطرة على كوسوفو ( Kosovo) ومونتينغرو ( Montenegro ) لمنع الروس من الوصول الى المياه الدافئة.

ألخاتمة.
يمكننا متابعة وتحليل دوافع الجيوسياسية الفرنسية والروسية والصينية لاظهار تصرف هذه الدول في العلاقات السياسية بين الأمم والدول، ولكن الهدف من هذه الدراسة هي اظهار تأثير العلم الجيوسياسي ونظرياته كمادة ووسيلة من العمل السياسي وانها أيضا مادة علمية وحقل علمي يساعد على قراءة تصرفات الدول وتبلور العلاقات الدولية فيما بينها والتي تظهر انها تتصرف كالافراد في هذا العالم وصراعاته التي لا تنتهي حيث تلعب الثورات والحروب بين الشعوب أدوارا في صقل الأنسان بحثا عن الامن والامان على الصعد العسكرية والدفاعية والغذائية والداخلية لتامين المصلحة والمنفعة لها.
ان الجيوسياسية هي أيضا سلاح يستخدم لتبرير الهيمنة والتوسع واملاء التصرفات على الدول، تماما مثلما يتصرف الرئيس ترامب حاليا وفريقه في التدخل في انكلترا وضم كندا وتهديد الدانمارك لبيع غرينلاند ( Greenland ) والسيطرة على بنما (Panama ) لان ذلك ضروري للولايات المتحدة ولأمنها كما صرح ترامب. ولكن فعليا فان الولايات المتحدة تسعى الى السيطرة ، وضمانا لامنها واقتصادها ،على طرق المواصلات التي بدأت بالظهور مع ذوبان الجليد في القطب الشمالي والتي تقلص طرق التجارة العالمية ب6000 كلم، مقارنة بالطرق التي تمر بمضيق جبل طارق ومضيق ملكا ((Malacca ، حيث لا أفضليات ولا حقوق مرور لاحد والاعماق كبيرة ولا تشكل اعاقة للملاحة.
ويتبين ان الجيوسياسية لا تستطيع لوحدها تفسير التاريخ والعلاقات بين الدول، ولكنها تعطي دوافع وحجج للدولة والجماعات البشرية للتوسع وتأمين الأمن وألبحث عن التوازن .
جمدت الايديولوجيا الصراعات الجيوسياسية خلال الحرب الباردة والثنائية القطبية. كتلتين ايديولوجيتين منسجمتين تتواجهان من خلال الحروب بالواسطة اي على الأطراف بعيدا عن القطبين الاساسيين وذلك في بلدان لا تسمح هشاشتها الاقتصادية والدفاعية ( كندا) والسياسية( دول أفريقيا) والدينية ( الشرق الاوسط) بمواجهة الدول الكبرى والمحافظة على مواردها واستقلالها السياسي والجغرافي.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، استرجعت الجيوسياسية قوتها ومكانتها في العلاقات الدولية.
ويمكن تفسير الحرب الاوكرانية- الروسية ومشاركة حلف الناتو وايران وكوريا الشمالية، والحروب والصراعات في دول الشرق الاوسط، يمكن تفسيرها جيوسياسيا.
ان قيام دول بالتوسع والسيطرة على الدول المجاورة في الشرق يدخل في الرؤيا الجيوسياسية لها ويبرر السعي الى المصلحة والتفتيش عن الامان والتوازن في المنطقة. تنجح دول وتسقط أخرى في مسعاها هذا، اي عندما تقترب من مواجهة الجيوسياسية للدول الكبرى وتهديد سيطرتها ومصالحها الحيوية وهي ليست قادرة تكنولوجيا واقتصاديا وعسكريا.
لن تقبل تركيا ولا تستطيع ان تسمح بوجود كيان كردي على حدودها مع سوريا لان ذلك قد يتسبب بتقسيم تركيا بسبب وجود ملايين الاتراك الكرد على تماس في المنطقة الجنوبية الشرقية مع سوريا منطقة تواجد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الغربي. كذلك يسعى الكرد في المنطقة مدفوعين بعامل الاتنية الجيوسياسي لانشاء دولة مركزية على حساب الحكم المركزي في تركيا وسوريا والعراق وايران.
لن تساوم الصين على ترك تايوان بعيدة عن سيطرتها لانها تشكل خطرا امنيا سياسيا وجغرافيا ووجوديا على الأميراطورية الصينية الشاسعة.

بالرغم من انحسار وانكفاء ايران على مسرح عمليات الشرق أوسطي، الا أنها ما تزال اللاعب الأقوى في العراق لوقوعه على حدودها وضمن مجالها الحيوي، والحل الذي يقدمه الاميريكي هو السلام بالقوة.
ان التوجه الأميريكي لاستخدام نظرية السلام بالقوة ما هو الا تفسير للعودة الى منطق مجد الأمة والمحافظة على مصالحها الحيوية للسيطرة ومنع تمدد وتهديد القوى الكبرى الأخرى لامن ومصالح الولايات المتحدة. اما المواجهة مع الصين فلها ابعادها ودراستها للمصالح الاقتصادية التي تملي السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميريكية.
ان ما تقوم به اسرائيل من تدمير واحتلال وهيمنة على المجال الحيوي الفلسطيني والسوري واللبناني والسيطرة على جبل الشيخ وسفوحه الغربية والشرقية يدخل في خلفية قومية ودينية وجيوسياسية أيضا تسعى لتبرير تصرفاتها.
اما في لبنان، فان انتخاب فخامة الرئيس جوزاف عون أعاد للبنان جمهوريته والثقة والمرجعية، واعطى املا بعد خطاب القسم السياسي والامني والاقتصادي وعودة الحضن العربي الاقتصادي والسياسي ، وتكليف رجل نزيه وشفاف،السيد نواف سلام لرئاسة الحكومة يمكن أن يعيد وضع لبنان على الخريطة الجغرافية والسياسية للامم وخاصة الاقتصادية وطرق الحرير الهندية وعودتها للمرور بمرفا بيروت والدخول الى سوريا والدول العربية ولكن مرفأ حيفا يهدد هذه الامكانية اذا سلك مشروع السلام الابراهيمي طريقه دون مراعاة الدولة اللبنانية والسورية والمصرية، ويأتي السؤال عن مصير مصر اذا تم ذلك والحروب السودانية الليبية على حدودها لا تتوقف ولا أفق لوقفها. ان دور لبنان ينحصر في بناء الدولة لتكون المقياس والمعيار للجيوسياسية كما ذكرنا سابقا، لان الجغرافيا اللبنانية لا تساعد على الامن والامان.

اعداد:
العميد الركن البحري المتقاعد نقولا رعيدي
بيروت في 13 كانون الثاني 2025

المراجع:
-F. Ratzel, – political geography , 1897.
– R. Kjellen, staten som lifsform (state as a form of life), 1916.
– A. Meyer, De la géopolitique, Paris, fayad,1986.
– Ratzel, the vital space, 1901.
-A. Mahan, the influence of sea power upon History, Boston,1890.
-K. Waltz, Theories of international Politics, New York, Addison Wesley, 1979.
– Z. Brzezinski, the Grand Chessboard, Collins publisher,1997.

Categories: دراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *